بيرون ضد بيرون!!..
أ)-البيرونية.. بين الحركية والحزبية
29 يونيو 2004
ساهمت الظروف الاقتصادية والاجتماعية-السياسية في الثلاثينيات في خلق الأجواء المناسبة لظهور البيرونية كحركة اجتماعية وثورية ذات شأن كبير. فقد حدثت حينها تعبئة اجتماعية على نطاق واسع ناجمة عن نمو صناعي مضطرد أدى بدوره إلى نشأة طبقة عمالية قوية ومتصاعدة كانت مطالبها تزداد باستمرار مما جعل الأمر يتطلب إحداث تعديلات في الهيكل السياسي بحيث يتم استيعاب ودمج هذه الطبقة والقطاعات الجديدة التي كانت مهمشة في السابق في المؤسسات السياسية في الأرجنتين. وبظهور "بيرون" على المسرح السياسي وجدت تلك القطاعات الجديدة لنفسها المرجع السياسي المناسب لخلق "الجسد البيروني" والتعبير عن مشيئتها السياسية وأيديولوجيتها ومنافسة بقية الأحزاب السياسية الموجودة أصلا، وخاصة الحزب الراديكالي.
ساهمت الظروف الاقتصادية والاجتماعية-السياسية في الثلاثينيات في خلق الأجواء المناسبة لظهور البيرونية كحركة اجتماعية وثورية ذات شأن كبير. فقد حدثت حينها تعبئة اجتماعية على نطاق واسع ناجمة عن نمو صناعي مضطرد أدى بدوره إلى نشأة طبقة عمالية قوية ومتصاعدة كانت مطالبها تزداد باستمرار مما جعل الأمر يتطلب إحداث تعديلات في الهيكل السياسي بحيث يتم استيعاب ودمج هذه الطبقة والقطاعات الجديدة التي كانت مهمشة في السابق في المؤسسات السياسية في الأرجنتين. وبظهور "بيرون" على المسرح السياسي وجدت تلك القطاعات الجديدة لنفسها المرجع السياسي المناسب لخلق "الجسد البيروني" والتعبير عن مشيئتها السياسية وأيديولوجيتها ومنافسة بقية الأحزاب السياسية الموجودة أصلا، وخاصة الحزب الراديكالي.
لقد اتسمت البيرونية منذ نشأتها بـ "الحركية" وانسجمت أفكار الثوريين المنتسبين إليها في بادئ الأمر مع أفكار الزعيم "بيرون" وتوافدت على الحركة العديد من القطاعات الشعبية والاجتماعية الوطنية واختلطت بها فتشكلت عدة تيارات داخل الحركة البيرونية. كما ساهمت أحداث كوبا ووصول "كاسترو" للسلطة ناهيك عن استخدمه للعناصر الثورية بقيادة "تشي جيفارا" إلى تجذر الأفكار البيرونية الثورية في الحركة. التيارات اليسارية من بين تلك التيارات هي التي منحت الحركة صبغتها الثورية التي ازدادت تطرفا فيما بعد بسقوط "بيرون" سنة 1955 إثر انقلاب رجعي عنيف وما ترتب عن ذلك من إلغاء للحزب البيروني ومن مطاردات وملاحقات لعناصره. ولكن عندما عاد بيرون فيما بعد من منفاه لتولي الحكم سنة 1973 نبذ فكر الحركة وأعرب لجميع أعضاء الحركة عن تخليه عنهم وطالبهم أن "يعودوا إلى منازلهم" في إشارة إلى أن زمن الثورة قد ولى وأنهم لم يعودوا الورثة ولا الخيار السياسي في ظل المتغيرات الجديدة. كانت تلك أول بوادر القطيعة بين البيرونية كحركة والبيرونية كحزب، بين البيرونية اليسارية والبيرونية اليمينية إذا صح التعبير. فقد تأثر "بيرون" حينها بأفكار الشق "الأوروثودوكسي" من الشخصيات ذات النفوذ في الحزب البيروني الذي كان ينتقد التوافق الذهني بين فكر "بيرون" وبين "الحركات الثورية" التي تغذت منه إلى أن تمكن ذلك الشق اليميني من إقناع "بيرون" بالتخلي عن الفكر اليساري ونبذ تلك الحركات في ظل المستجدات الاقليمية والدولية حينذاك والتي نذكر من بينها التغيرات التي طرأت على حكومات المنطقة حيث تولت حكومات عسكرية مصائر الدول المجاورة في الإقليم -بتغاضي من طرف الولايات المتحدة الأمركية في إطار مكافحة الشيوعية في القارة الجنوبية. ففي تشيلي يحدث الانقلاب العسكري ضد حكومة "ألندي" الاشتراكية، بينما تستولى حكومات عسكرية أخرى على الأنظمة في كل من البرازيل وبوليفيا والباراغواي. وإزاء هذه الأوضاع التي تقف وراءها أمريكا والضغوطات التي تعرض إليها "بيرون" من قبل الشق اليميني حينذاك جعلته يغير من استراتيجيته لعدم قدرته على تمرير مشروعه المستقل فغير وجهته نحو أمريكا وخفض من لهجته المعادية لها وجدد العلاقة مع جيرانه.
عندما تخلى بيرون عن "الحركية" الثورية امتزجت الأحاسيس في صفوف البيرونيين، فمنهم من أراد الاستمرار في استخدام العنف لتطبيق مبادئ الحركة البيرونية وأفكار بيرون - نابذين فكرة "التحزب" لكون الأحزاب لا تعد عنصر مقاومة وكفاح وإنما جزء من النظام الذي خلفه استعمار أمريكا اللاتينية كما هو الحال بالنسبة للحزب المحافظ في ذلك الوقت أو بقية الأحزاب الارستقراطية والبرجوازية الليبيرالية كما هو حال الحزب الراديكالي. كما نبذت تلك الحركات البيرونية فكرة الجيش النظامي باعتباره حامي الاقطاع والطبقية والذراع المسلح للطبقات الاقتصادية المتميزة كما كان يقول "جون وليام كوك" Cooke حينها. هذا الأخير كان من المنظرين والثوريين المقربين لبيرون قبل أن يغير وجهة سياسته وقام بتشكيل ما سمي بـ "الحركة الثورية البيرونية" ARP والتي كانت تجمع بين القومية الثورية والاشتراكية. وجذير بالذكر أن البيرونية الثورية نشأت تاريخيا اعتبارا من شهر ديسمبر سنة 1959 من خلال الحركات المقاتلة التي اتخذت من ولاية "توكومان" نقطة الانطلاق حيث نشأت الحركة المعروفة باسم "الحركة البيرونية للتحرير. ثم تكاثرت فيما بعد تلك الحركات التي كانت تتركز أهداف غالبيتها على مقاومة الحكومة العسكرية "الديكتاتورية" أو الرأسمالية الأجنبية والاقطاع المحلي والامبريالية في الأرجنتين ناهيك عن كفاحها من أجل "عودة بيرون من منفاه وتوليه الحكم من جديد"، فنشأت حركة "أوتورونكو" و "الحركة الوطنية الثورية تاكوارا" و الحركة الثورية البيرونية (التي أسسها نقابيون انشقوا عن قوى بيرونية يسارية أخرى) و "الشبيبة الثورية البيرونية" و "بيرونية الأساس" و "الحركة الثورية 17 أكتوبر" و "الجبهة الثورية البيرونية" و"القوات المسلحة البيرونية" و "القوات المسلحة الثورية" وأخيرا "حركة مونتونيروس" وهي أكبر "تنظيم بيروني ثوري" لايزال أسمه يؤثر في أحداث السياسة الحالية وبالذات في هذه الحكومة قيد البحث – حكومة الرئيس الحالي "نستور كرتشنر".
تلك الحركات كانت ترى في الستينيات والسبعينيات في بيرون مؤيدا للفكرة القائلة بأن البيرونية ما هي إلا مرحلة انتقالية باتجاه الاشتراكية. في تلك الفترة كان بيرون يؤيد ويحفز تلك الحركات الثورية (وخاصة مجموعة مونتونيروس) من مقر منفاه في مدريد حيث أن تلك الحركات كانت تهئ لعودته للحكم من جديد عن طريق الكفاح المسلح الذي يبدو أن بيرون حينها استغله لصالحه حيث أنه ذكر في رسالة إلى هذه الحركات عزمه على رفع راية مقاومة الرأسمالية ومزج الاشتراكية الوطنية بالبيرونية والكفاح ضد الامبريالية وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية، كما جاء في رسالة له من مدريد بتاريخ 20 فبراير 1971. تلك التنازلات وبالأخص البيانات المضادة لأمريكا لم ترق للبرجوازية المحلية حينذاك ولا للجيش ولا لأمريكا ناهيك عن كونها قوبلت باستهجان من قبل الشق البيروني الأورتودوكسي المعادي للشق الحركي من البيرونية مما زاد في إشعال فتيل النزاع والصراع الداخلي وساهم في إبتعاد بيرون عن الحركيين شيئا فشيئا واقترابه من الجناح الأوروتودوكسي أكثر فأكثر، فازداد تطرف تلك الحركات الثورية (مونتونيروس) إلى درجة العنف وانتهى الأمر إلى نبذ "الجنرال بيرون" لهم بالكامل فوصفهم بالشيوعيين وبالدجالين المغفلين. وعندما فاز في الانتخابات التي أرجعته للأرجنتين سنة 1973 كان النزاع بين الشقين الأيسر والأيمن في الحركة البيرونية على أشده. وأستغل الشق اليميني البيروني ذلك لتبدأ مرحلة من المطاردات والملاحقات ضد مقار الشبيبة البيرونية الذين لحق بهم التعديب والتنكيل وكذلك الموت. حينذاك أخفق الشقان في توحيد الصفوف لعدم التوافق بين الداعين للحركية وتأسيس "وطن اشتراكي"من جهة، والداعين "للحزبية" ونبذ فكر اليسار، فتشتتت قواهم في صراع على السلطة فيما بينهم لا يزال يؤثر على مسرح الأحداث حتى يومنا هذا.
كانت تلك تغيرات طرأت على البيرونية كحركة حتى حولتها إلى حزب جامد إلى درجة مقاومة الفكر الثوري والتقدمي وإخضاعه للإقطاع والرجعية واليمين كما هو الحال منذ عودة البيرونية (1973-1076) وحتى خلال حكومة "كارلوس منعم" (1989-1999). أما اليوم –وبعد تقهقر الحزب الراديكالي الخصم والمعارض- فهناك رياح تغيير تطوف حول حكومة "كرتشنر" الذي نراه يحاول خلق شرعية جديدة لنفسه من خلال الرجوع ولو بتردد إلى البيرونية "كحركة" بعيدا عن سيطرة الحزب وديناصوراته من الشق الأيمن بما فيهم الرئيس السابق "دوهالدي" على سبيل المثال لا الحصر. من هنا يتردد في مختلف الأوساط اليوم أن الحزب البيروني يعاني من أزمة وهو ما يعني في الواقع أنه يتخبط بين ماضيه كحركة وحاضره كحزب، بين شخصيات ثورية وأخرى رجعية ومحافظة. بعض تلك الأوساط، وخاصة اليمينية، ترى أن حكومة الرئيس الحالي "كرتشنر" تشكل تهديدا "للديمقراطية" لكونها حكومة تحاول الرجوع بالبيرونية إلى خانة الحركية باستقطابها لعناصر وشخصيات كانت أساسية في تلك الحركات البيرونية المذكورة وخاصة في صفوف "المونتونيروس" الثوريون في الماضي، وأن الرئيس "كرتشنر" يبدل قصارى جهده لتشكيل تيار بيروني جديد مفصول عن الجناح اليميني في الحزب الذي أوصله لسدة الحكم في 25 مايو 2003. إذا نحن أمام تقلب داخل الحزب البيروني بهدف إحداث تغيير باتجاه الحركية مرة أخرى مما ينذر بأزمة وعاصفة قوية قد لا تترك أثرا مستديما ونهائيا في هيكل الحزب البيروني فحسب بل في مستقبل هذا البلد السياسي بوجه عام وبعنف.
ب)- أسلوب الرئيس "كرتشنر"
حكومة الرئيس "كرتشنر" تهيمن على المسرح السياسي حيث غياب المعارضة الفعلية من قبل أحزاب أخرى غير بيرونية. فالحزب الراديكالي لم يعد قادرا على الصمود في وجه البيرونية منذ أن تسبب الرئيس الراديكالي السابق "دي لا روا" في الأزمة الاقتصادية والاجتماعية في 20 ديسمبر 2001 وما تلا ذلك من تردي للأوضاع لا زال أثرها قائما حتى يومنا هذا. وبفعل اختفاء ذلك الحزب المعارض الرئيسي وقلة حيلة الأحزاب الأرجنتينية الأخرى بما فيها الجديدة أصبح الصراع على السلطة يدور بين البيرونيين أنفسهم فعادت للذاكرة تلك الحقب التي كان فيها النزاع بين مشاريع ثورية وطنية وأخرى يمينية محافظة ورجعية في نفس الحزب. بمعنى آخر، بين الحركية والحزبية.
في هذا الإطار يحاول الرئيس "كرتشنر" وفريقه اليوم إنشاء هوية سياسية جديدة مختلفة عن تلك التي سعى لها "كارلوس منعم" وسعت لها البيرونية المحافظة. هذه الهوية الجديدة ترتكز على ما عرف هنا باسم "العرضية الأيديولوجية" (بحيث يتم استقطاب ودمج أحزاب أخرى "غير بيرونية" في الحكومة إلى جانب عناصر ثورية بيرونية قديمة) بهدف تجديد الهوية والقضاء على الفساد و"الجمود" الذي أحل بالحزب البيروني، وهو ما قد يترك العديد من أعضاء الحزب البيروني التقليدي خارج اللعبة السياسية. ويعزى البعض هذا السلوك من طرف "كرتشنر" إلى كونه وصل سدة الحكم بفضل أصوات الرئيس السابق "دوهالدي" وبفعل دعمه له للفوز على "كارلوس منعم" في الانتخابات الأخيرة والتي تحصل فيها بالكاد على 22% من إجمالي الأصوات. منذ تلك اللحظة يبدل الرئيس "كرتشنر" كل جهده للتخلص من تركة "دوهالدي" والبيرونيين اليمينيين والمحافظين بشكل عام. إلا أن ذلك لم يكن ليتحقق في وجود أغلبية بيرونية موالية لـ "دوهالدي" في البرلمان ووقوف العديد من حكام المحافظات البيرونية اليمينيين في وجهه ناهيك عن عداوة الشق الموالي لـ "منعم" في الحزب البيروني. وهذا هو ما دفع بالرئيس "كرتشنر" إلى التحالف مع أحزاب أخرى غير بيرونية لخلق تيار بيروني "عرضي" جديد يتغلب على الشق التقليدي المعادي له.
أسباب القطيعة بين مختلف ألوان الطيف البيرونية تعزى إلى محورين إثنين من محاور سياسة الرئيس "كرتشنر". أول تلك المحاور تمثل في معاداته لقيادات البوليس والجيش وإقالته لأهم عناصره في محاولة لكسب ود اليساريين وتنظيمات وجماعات حقوق الانسان وغيرهم من الأحزاب الصغيرة الأخرى والحركات التي كانت في مواجهة مع الحكم العسكري عقب الإطاحة بالزعيم "بيرون" ثم في السبعينيات. هذا التصرف جعل الشق البيروني المحافظ والمعارض للحركات الثورية البيرونية يخشى من تأجيج الرئيس "كرتشنر" للمواجهة المباشرة مع العسكريين وفتح أبواب الحكومة أمام اليسار البيروني مرة أخرى في تحد صارخ للجيش والبوليس في الأرجنتين. بالنسبة لجهاز البوليس فقد أمعن الرئيس "كرتشنر" في خلخلة الهيكل البوليسي "لتطهيره" من العناصر التي يقول أنها "فاشية" باعتبار أن هذا الجهاز تعاون في الماضي مع الجيش ضد الحركات اليسارية المذكورة. وبالفعل وبالأخص هذه الأيام نجد الرئيس "كرتشنر" يغض الطرف عن المظاهرات وأعمال الشغب التي تقوم بها بعض قطاعات العمال العاطلين أو "بيكيتيروس" (الذين انشقوا كذلك بين مؤيد للرئيس الحالي ومؤيد للرئيس السابق "دوهالدي" في صراع مستمر) والتنظيمات والحركات الشعبية واليسارية المتطرفة، بينما يمنع الشرطة من قمعهم أو التعرض لهم!!. هذا التصرف زاد من حدة التوثر فزادت نسبة الجريمة في الشوارع وخاصة عمليات الخطف التي يشار بأصبع الاتهام فيها إلى بعض عناصر قوات البوليس أنفسهم ممن ألقت بهم حكومة "كرتشنر" إلى الشارع في إطار العملية "التطهيرية" المذكورة. هذه الجرائم وسيطرة الحركات العمالية واليسارية على الشارع والهجوم على مراكز الشرطة وتحدي الجيش عادت بالأدهان إلى حقبة السبعينيات خاصة وأن العملة الرائجة في تلك الفترة من قبل الحركات اليسارية كانت عمليات الاختطاف إما للإنتقام من الحكومة وإما لتمويل تنظيماتها وحركاتها استعدادا للإنقضاض على السلطة أو زعزعة الحكومة. من هنا حرص الرئيس "كرتشنر" على توفير الأمن والأمان لحركات "البيكيتيروس" العمالية والحركات اليسارية (على الأقل حتى تاريخ تحرير هذا التقرير) لكونها أداة ضرورية في المستقبل لمكافحة اليمين المتربص بحكومته– على حد زعمه هو ومعاونيه. هكذا تصرف قد لا تحمد عقباه بالنظر لحالة الفوضى التي تعم أجهزة الشرطة والجيش وهي ترى حركة "بيكيتيروس" العمالية تتهجم على مبانيها وممتلكاتها بينما تتفرج حكومة "كرتشنر" بتشفي باعتبار أن تلك الحركات العمالية "بيكيتيروس" تخدم مصلحتها في ذلك. الرئيس السابق "دوهالدي" كذلك يسيطر على شق آخر من "البيكيتيروس" باعتباره سلاح ذو حدين: فهي حركات مفيدة لحظة الحاجة إلى أصوات انتخابية ولكن كذلك في نقل النزاع الحزبي إلى الشارع. حالة الاستياء من هذا الأسلوب بدأت تعم المجتمع وبالأخص الطبقة المتوسطة ورجال الأعمال والمستثمرين بمن فيهم الأجانب. الجيش كذلك ينظر بقلق بينما الحركات اليسارية المتطرفة تعتدي على مقرها الرئيسي في العاصمة (الأسبوع الماضي) وهي تصرخ بشعارات ضده وتهين هيئته دونما تدخل من أي قوات أمنية لمنع ذلك.
المحور الثاني من محاور سياسة "كرتشنر" يتمثل في رغبته في تركيز السلطة في يده على حساب حكام الولايات البيرونية الأخرى ومقاطعة قيادات الحزب البيروني مستغلا الفراغ الذي يعيشه الحزب البيروني حيث افتقاره حتى اليوم لزعامة شخص معين وبالأخص على مستوى العاصمة والمحافظة حيث أخفقت قيادات الحزب في اختيار زعيم جديد وخرجوا من قمتهم الأخيرة في 26/3/2004 بدون أي نتيجة بالخصوص. خلال ذلك الاجتماع الذي خصص لاختيار الزعيم الجديد للحزب البيروني – ولم يحضره "كرتشنر" لتفريغ الاجتماع من مضمونه ربما- حدث تلاسن حاد بين زوجته "كريستينا" ذات التاريخ "الثوري" (حيث انخراطها في الماضي في صفوف حركة "مونتونيروس" المشار إليها سابقا) وذات التأثير الكبير على قرارات زوجها فيما يخص الانتقال بالحزب باتجاه خانة "الحركية" ومقاومة اليمين البيروني، وبين زوجة الرئيس السابق "دوهالدي" وزعيم البيرونية على مستوى محافظة بوينوس آيريس. كلتا السيدتين ترغبان في الترشح لحكومة محافظة بوينوس آيريس السنة القادمة، الأولى لكسر احتكار "البيرونية الدوهالدية" (اليمين) لزعامة الحزب في محافظة بوينوس آيريس وإحداث شرخ في الجدار البيروني لتمكين التغيير، والثانية للحفاظ على ذلك الاحتكار والهيمنة في القطاع المعني وقطع الطريق أمام أنصار كرتشنر في المحافظة وتيارهم الجديد المسمى بـ "الجبهة من أجل النصر" الذي تندمج فيه تنظيمات وأحزاب أخرى غير بيرونية أو منشقة عن البيرونية اليمينية مثل "الحزب من أجل الثورة الديمقراطية" PRD (الذي يمثله النائب اليساري القديم "ميغيل بوناسّو" ذو التأثير على سياسة "كرتشنر" وصاحب فكرة تفكيك جهاز البوليس حسب إفادة بعض الأوساط)، و"التيار البيروني المستقل" CPI و"الحزب من أجل النصر" PV و "كونفلوينسيا" و"اللقاء التقدمي"، و"الذاكرة والتعبئة"، وغيرها من التجمعات.
وقد وصل بالرئيس كرتشنر الحد إثر ذلك المؤتمر إلى مقاطعة حكام الولايات البيرونيين الذين يعترضون على سياسته "العرضية" وسياسته المضادة للجيش والمصالحة لليسار من أمثال "دي لاسوتا" (ولاية قرطبة)، و "خورخي عبيد" ولاية سانتا في) و"أنخل ماسا" (ولاية لاريوخا) و"كارلوس بيرنا" (لابامبا)، ولم تتحسن العلاقة إلا بعد "وساطة" دوهالدي الذي لايزال يقوم بهذا الدور على مضض رغم علمه بأن السياسة الكرتشنرية تسعى إلى تأسيس "بيرونية بدون دوهالدي". تهديد "كرتشنر" بشجب الدعم المالي الفدرالي على بقية الولايات المحتاجة وفتح أبواب الاستثمار أمام العملاق الصيني ساهمت كذلك -وبشكل مؤقت ربما- في الانفراج الحالي في العلاقة بين الرئيس وحكام الولايات المعنية. في الزيارة التي يقوم بها حاليا الرئيس الأرجنتيني إلى الصين اصطحبه –بالإضافة إلى حكام موالين له- كل من "دي لاسوتا" عن قرطبة، و"عبيد" عن "سانتا في" باعتبارهما ممثلين لما سمي في بعض الأوساط الاعلامية المفتنة بـ "محور الشر"، حيث التفافهم حول دوهالدي ونبذهم لسياسة "كرتشنر" المعلنة. كلاهما لم يغفر للرئيس اسقاطهما من قائمة المدعوين لحضور احتفال تحويل "المدرسة البحرية الحربية" ESMA إلى متحف في 24 مارس الماضي انصياعا لرغبة حركات يسارية وحقوقية مناوئة للحكومة العسكرية السابقة. كما أن حاكم قرطبة لازال يعتقد أن "كرتشنر" قد سلب منه رئاسة الأرجنتين مستعينا بـ "دوهالدي" في ذلك مع بدايات سنة 2003. أما "عبيد" بالإضافة إلى معارضة سياسة الرئيس العرضية فإنه لم يغفر لـ "كرتشنر" دعمه لخصمه الاشتراكي "هرمز بينير" خلال الانتخابات المحلية في سبتمبر الماضي بولاية "سانتا في".
وقد نجحت سياسة كرتشنر "العرضية" الترغيبية والترهيبية أحيانا في تركيع حكومات ولايات كل من "ادواردو فرنر" (ولاية خوخوي)، و "كارلوس روبيرا" (الذي هجر البيرونية التي يقودها "رامون بويرتاس"- ولاية "مسيونيس")، و"خيدو انسفران" (ولاية فورموسا) و"خورخي ألبيروفيش" (ولاية توكومان)، و"ادواردو غالينتيني" (نائب حاكم ولاية كورينتس) و"ماريو داس نيبيس" (ولاية تشوبوت) و "سرخيو آسيبيدو" (ولاية سانتاكروس). فيما يخص كسب تأييد حكام الولايات تجدر الإشارة إلى أن ذلك يتم بالدرجة الأولى عن طريق منح الحكومة الفدرالية لحصص مالية معينة للولايات من نصيب الدولة من العائدات، وهو ما يحد من استقلالية تلك الولايات ويجعل مصير أغلبها في يد الحكومة المركزية كما رأينا هذه الأيام من خلال النزاع العنيف بين بعض الولايات والحكومة المركزية بخصوص تلك الحصص.
ج)- تعليق ختامي
من المعهود عن الحزب البيروني تاريخيا أنه كلما حل رئيس باسمه فإن هذا الرئيس غالبا ما يبتعد عن حزبه في محاولة لخلق "استقلالية" عنه والتحول إلى "زعيم" بتكديس الشعبية وتركيز السلطة في يد واحدة. أي أن البيرونيين يستخدمون الحزب كوسيلة فقط للقفز باتجاه السلطة. اليوم نجد محاولات لتهميش بقية عناصر الحزب ومركزة السلطة وتشكيل "حركة" على مقاس الرئيس الجديد بالاستقطاب والاعتماد على حكام وسياسيين من خارج الحزب البيروني كذلك، كما فعل "كرتشنر" في بداية توليه السلطة عندما قدم دعمه في انتخابات الولايات الأخرى لصالح شخصيات من خارج الحزب البيروني (ولاية "مسيونيس"، و "لاريوخا"، على سبيل المثال لا الحصر). إذن، يحاول "كرتشنر" التحول إلى زعيم "للبيرونية الحركية" تحت تسمية وهمية وهي "الحركة العرضية" وهو ما لا يخدم الاستقرار "الديمقراطي" حاليا في الأرجنتين. فإذا نجح كرتشنر في ذلك فإننا نجد انفسنا مرة أخرى أمام البيرونية كحزب مهيمن لكونه الحزب الوحيد بدون منافس. وإذا لم يكتب له النجاح في ذلك فإن حكمه سيكون مهددا وصعبا. إذن نحن أمام صراع على السلطة حيث أن الحزب يخوض منذ سنة هذا الصراع دونما الانتباه للإصلاحات الأخرى.
ولا يجب أن ننسى أن "كرتشنر" وصل للسلطة بطريق الحظ، ولعدم وجود خيار آخر، ولم يكن يملك نفوذ وإنما وصل بأصوات "دوهالدي" غير أنه مخدوع باستطلاعات الرأي التي تبرز رضا الرأي العام، ناهيك عن أنه لا يعرف كيفية التوصل للحلول أو لتحالفات وإنما في كل يوم يخلق نزاع جديد. ثم أن تلك الشعبية على الورق لن تفيده ما لم تؤيده أهم محافظتين مثل "سانتا في" و"قرطبة"، وحتى محافظة بوينوس آيريس حيث يقيم دوهالدي. فدوهالدي كما أشرنا سابقا لا يزال يقوم بدور الوسيط ولكن إذا تفكك الحزب البيروني فإن مهمة كرتشنر ستكون صعبة. وإذا أضفنا إلى ذلك الأزمات التي تواجه "كرتشنر" كأزمة الطاقة والغاز، وارتفاع الأسعار، وغياب الأمن، فقد يفقد شعبيته الواهية تلك وخاصة أنه في بلد مفلس وبدون فرص عمل. البيرونيون في جميع الأحوال سيحاولون الظهور وكأنهم على وفاق ولكن ذلك هو نتيجة تخوفهم من فقدان هيمنة الحزب الواحد لدى الرأي العام.
إذا تمكن الحزب البيروني من الاستمرار فإن ذلك يرجع إلى النظام الذي يتأسس عليه حيث أنه نظام يعمل على شكل شركة مساهمة .S.A ولو أن الفرق أنه في هذه الحالة يكمن في أن "الحصص" ليست على هيئة أموال وإنما على هيئة سلطة ونفوذ وقدرة على التعبئة، وبقدر هذا النفوذ يتحصل كل منهم على منصب هام في المجلس البيروني أو رئاسته (لذا نجدهم يتنافسون فيما بينهم في أكبر القاعات والمدرجات على حشد أكبر عدد من الجماهير). ورغم كل ذلك، استمرارية الحكم البيروني الحالي واستقرار الأرجنتين من عدمه يعتمد على تطور الأحداث وردة فعل قوى اليمين المحافظ والجيش والبوليس والكنيسة معا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
لأي استفسار أو تعليق مراسلتنا على البريد التالي: libiahoy@gmail.com