ضريبة حق يراد بها باطل..!

على خلفية تمرد المزارعين على الحكومة الأرجنتينية 
مارس 2008م


قضية الصراع بين الريف والمدينة وبين قطاعي الزراعة والصناعة وبين الأرجنتين التي تنتج والأرجنتين التي تستهلك تعود إلى السنوات الأولى من نشأة هذه الدولة كبلد مستقل وإلى سنوات الصراع بين الاتحاديين والفدراليين. عملية التعايش في سلام بين ملاك الأراضي والحكومات المتوالية باتت مسألة اتفاق ضمني وحماية مصالح كذلك منذ السنوات الأولى من ميلاد الأرجنتين، وأصبحت مسألة نمو وتطور البلد مبعث توثر في العلاقة بين الحكومة والطبقات المحافظة الأوليغارشية صاحبة أكبر نسبة من الأراضي. سياسات الاصلاح الزراعي لم تفلح قط في الماضي بسبب الاقطاع ذو النفوذ والقوة الاقتصادية، واستبدلت بعلاقة حماية مصالح تبحث فيها الحكومات عن استقرارها السياسي بالابتعاد عن محاربة الأرياف والاستفادة قدر الامكان في المقابل من الموارد المالية التي تدرها الصادرات عليه لتحسين النفقات العامة والفعالية الاقتصادية لتحقيق الشرعية السياسية والحاكمية وبالتالي الاستمرا في الحكم. في أرجنتين اليوم 4000 منتج زراعي يمتلكون نصف مساحة الأراضي في الأرجنتين، وهناك عموما حوالى 300 ألف منتج. في منطقة "بامبا" الخصبة ما يعادل 4 مليون هكتار (مساحة ولاية كاملة) يمتلكها 115 شخص فقط. ولكن ما هي الحلول لهذا؟، هل ما تفعله الحكومة يصحح هذا الخطأ أم أنها زادت الطين بلة؟. تطبيق السياسات الضريبية هي الأخرى إكتسبت منذ سنة 1820 تقريبا وحتى الآن وبشكل متعمد طابعا جبائيا أكثر منه "حمائيا". قوة ونفوذ عائلة "كرتشنر" اليوم تعتمد على الاستقرار الاقتصادي بالدرجة الأولى قبل أي اعتبارات سياسية أو ايديولوجية أخرى. بمعنى آخر، هي الأخرى تعتمد على عوائد القطاع الزراعي الحيواني الذي يدر على خزنة الحكومة ما يقارب من 10 مليارات أو 12 مليار دولار.
في 13 مارس الماضي فجر زعماء الهيئات الريفية الأربعة اضرابات وتمرد زراعي يكاد يكون شامل مطالبين الحكومة بالتراجع عن فرض نظام ضريبي متحرك (حسب ارتفاع أو انخفاض سعر الصويا عالميا) على محاصيل الصويا وعباد الشمس إرتفع من25% إلى 35% ثم إلى 44% إعتبارا من 13 مارس الماضي. ورغم انخفاض سعر الصويا نسبيا اليوم وبالتالي انخفاض تلك الضريبة إلا أن الزراعيون يصرون على العصيان. دخل ممثلوا الهيئات الريفية قصر الحكومة مساء يوم الجمعة الماضي 28 مارس مصرين على جعل الآلية الضريبية ثابتة بالإضافة إلى تراجعها إلى النسبة السابقة 35%، أو تعليقها لمدة 90 يوما ولكن الحكومة رفضت ذلك. تشكلت في أنحاء الأرياف الأرجنتينية مجالس شعبية اعطت فرصة للحكومة حتى يوم الأحد 30 مارس وإلا فإنهم اعتبارا من بزوغ شمس يوم الاتنين 31 مارس سوف يرجعون لقطع الطرقات بشكل شامل، وهو قرار اجماعي أتخذ بعد التشاور في مجالسهم الشعبية في الأرياف. يعني أن الدولة تبقي على 35% من أرباحهم ثم تطالب بـ 44% ثم اذا ارتفع سعر تلك المحاصيل تفرض عليهم حتى 49%، يعني انها تستأثر بجزء كبير من أرباح المزارعين دون تعويضهم مقابل ذلك وهذه عبارة عن مصادرة يمنعها القانون وتتعارض مع الدستور.
بعد مرور 20 يوما على الاضرابات تفاقمت خسائر العديد من الولايات التي لا تنتفع أصلا بهذه الضرائب التي تحتفظ بها الحكومة "المركزية" ولا تتقاسمها مع الولايات الأخرى، كما يحدث في ضريبة الأرباح أو ضريبة القيمة المضافة، بل تستأثر بها لوحدها وتصرفها في شراء ولاءاتهم وإسكاتهم وفي النفقات العامة التي تزيد من رصيدها في الانتخابات. هذا التصرف قد يهدد ولاء بعض الولايات التي بدأت تجهر برأيها المخالف، حتى أن بعضها رفض مشاركة الحكومة في مظاهر وتظاهرات التأييد المطلق.
الحكومة تبرر رفع الضريبة بحاجتها للإنفاق العام في شتى القطاعات ولكن المزارعون يرون عكس ذلك، "لأن الدولة لا تستثمر ولا تخاطر ولا تتعاقد مع تأمينات، فقط تسرق عرق المزارعين" على حد قولهم. القطاع الزراعي الحيواني أنقد وأخرج الأرجنتين من أزمتها اعتبارا من سنة 2002 ويستحق في رأيهم معاملة أفضل. معاملة كهذه سوف تخيف المستثمرين الأجانب كذلك وسوف يلجأون إلى دول مجاورة أكثر أمانا. في نظرهم ما فعلته الحكومة يعتبر بمتابة مصادرة لأملاكهم، وأن غطرسة الحكومة امتدت إلى درجة تهديدهم بفضح ما يكسبونه في حياتهم وخصوصياتهم المالية الأخرى، وهو إن دل على شي إنما يدل على حقد دفين تجاه هذا القطاع شبيه بذلك الذي مارسته ضد العسكريين وضد الكنيسة. فهل أتي الدور اليوم على ما يطلق عليه من قبل اليسار الكرتشنري بـ "الأوليغارشية"؟؟ (حكم الأقلية، في هذه الحالة في الغالب ملاك أراضي). في الواقع الحكومة حاولت تقليص الفجوة فيما يخص الاستجابة نسبيا لمطالب المزارعين حيث أنه من قيمة الـ 40% من الضريبة المفروضة (44% في الأصل ولكن انخفض سعر الصويا الدولي مؤخرا) وافقت الحكومة على إرجاع تعويضات بما نسبته 5% لصغار المنتجين، وبهذا تكون نسبة الخصم أو الضريبة 35% أي قريبة من القيمة التي كانت سارية قبل الزيادة الأخيرة وقبل الأزمة، ولكن لا تبدو بوادر على رضى واقتناع المزارعين. من ناحية أخرى فقدت الجمعيات الزراعية والاتحادات السيطرة على القواعد الأساسية من المزارعين الذين لازالوا مستمرين في الإضراب مستمدين قوتهم من مجالسهم الشعبية في الأرياف رغم ما قدم إليهم من تنازلات قيمة. الأمر يصبح إذن مثير للشكوك، فتصرفاتهم تنم في واقع الأمر عن مخطط أبعد من مسألة نزاع ضريبي لأمر في أنفسهم يخفونه، متعلق ربما بفكرة خلخلة الأوضاع وتأليب بقية قطاعات الشعب على هذه الحكومة عن طريق سد الطرقات ومنع وصول السلع الغذائية للمدن، بغية الإطاحة بها. فاليوم وفي غياب أحزاب معارضة متماسكة يستعرض الريف عضلاته ليبرهن على امتلاكه للقوة الكافية والكفيلة بخلخلة النظام الحاكم. بالخصوص أعتقد أنهم في الحكومة يصلون ويدعون ربهم أن لا يتشكل "حزب الأرياف" لأنه سيستقطب جميع الأحزاب اليمينية والمحافظة والمعارضة الأخرى بما لا يدع سبيل لأي منازع. الحكومة اليوم يبدو وكأنها كانت تبحث عن الاصطدام بهذا القطاع من باب البرهنة على الخط الايدولوجي الهادف منذ وصول حكومة "كرتشنر" إلى إذلال "عدو قديم" متمثل في الأوليغارشية الزراعية على غرار ما فعلت مع الكنيسة والجيش فيما سبق في إطار الحقد الدفين على الهياكل القديمة الثلاث من أجل تفكيك هذا الآئتلاف التاريخي المحافظ المتسبب في نظرهم في كل الانقلابات والإضطرابات المضادة للحكومات الشعبية في الأرجنتين.
الرئيسس السابق وزوجته، الرئيسة الحالية، وأنصارهما يعتقدون أنهم قد قضوا على حليف استراتيجي للأوليغارشية متمثل في العسكريين، الذي باتت معظم عناصره في السجون، وفي الكنيسة ولم يتبق إلا خوض المعركة ضد "الريف الأوليغارشي". وبإنجاز المهمة التاريخية يصبحون بذلك " أكثر باباوية من البابا نفسه"، أو بمعنى أخر: أكثر بيرونية من بيرون!!. فهذه الحكومة تواجه المشاكل والخصوم بميراث سبعيناتي اشتهرت به حقبة نضال الشبيبة البيرونية (مونتونيروس) ضد الحكم العسكري. الكراهية برزت واضحة في خطاب الرئيسة الأول يوم الثلاثاء 25 وما نقله عنها وبمباركتها ربما "لويس دي ليا" أحد زعماء قطاعات الـ بيكيتيروس" عندما شتم كل من هو "أبيض، أوليغارشي وغني" لأنهم في نظره يريدون الإطاحة بحكومة شعبوية يسارية وديمقراطية. "إننا نشتم رائحة انقلاب في احتجاجات الطناجر والريف الاثنين الماضي، وطناجرهم لم تكن قديمة ومستعملة وإنما جديدة ومن "الستيل" الذي لا يصدأ"، قالت غاضبة "هيبي دي بونافيني" زعيمة امهات ساحة مايو.
الحكومة البيرونية معروفة. حكوماتها اعتمدت تاريخيا على حلقة نقابات العمال وعلى القطاع الصناعي. كل ما هو خارج هذه الحلقة هو خارج حلقة الحكومة. من بين هؤلاء الأوليغارشية الريفية والكنيسة (والجيش)، أي أن القضية قضية ايدولوجية، مسألة حقد قديم وتاريخ يعيد نفسه.
ولعل الصورة التي قالت الرئيسة في خطابها الأول أنها رأتها في مظاهرات الطناجر قد تكون صحيحة (صورة لزوجها كتب تحتها "يا بيديلا عد إلينا"، أي يا عسكر عد لتنقدنا من حكم المونتونيروس من أمثالها وزوجها). لكن لعل ما يثبت تلك النوايا الدفينة ضد الماضي الريفي والعسكري هي صورة علقت على جدران أحد شوارع بوينوس آيريس (السبت 29/3/2008) يظهر فيها وجه "مارتينيز دي هوز" (وزير الاقتصاد في تلك الحقبة العسكرية)، كتبت بجانبه العبارة التالية "الجمعيات الريفية هي مارتينيز دي هوز"، بتوقيع حزب النصر الخاص بأنصار "كرتشنر" في ولايته الجنوبية. فماذا نسمي هذا إن لم نسمه ضريبة مفروضة عمدا وبهدف الاستفزاز مع سبق الاصرار والترصد؟!. فهل هو دليل على أن الحكومة رفعت الضرائب لشي تضمره بعد أن أسكت العسكريون وأسكتت الكنيسة!؟ وهؤلاء المزارعون يرفضون شتى الحلول لغرض آخر معروف ومضاد فعلا؟!. لماذا لا تفرض الضارئب على غيرهم من المترفهين وعلى صادرات القطاعات المصدرة الأخرى؟! وهل هي حرب عادلة ضد من يسموا بـ "رموز الرجعية"؟! وهل الحكومة واثقة من تحقيق النصر على هكذا عملاق!؟ وكيف إذاً سيكون هناك وفاق أو عقد اجتماعي جديد كما قالت الرئيسة في 10 ديسمبر الماضي إذا كانت هذه هي الخيارات المطروحة على الساحة؟! مهاجمة محصول الصويا والمشرفين عليه من قبل الرئيسة لا يجب أن يعني إهمال بقية المحاصيل، فماذا قدمت الحكومة للمحاصيل الأخرى؟؟ ومما عاشت الحكومة خلال السنوات الستة الأخيرة، وبفضل من كدست أكبر احتياطي نقدي؟؟.
كانت هناك مخاوف من أن يؤدي تشدد الحكومة اتخاذ منتجي الأرياف خطوة جديدة متمثلة في إعلان "العصيان الزراعي" والامتناع عن سداد الضرائب الأخرى عموما على مستوى البلديات والمحافظات، وهذا إذا نجح سيتبعه "عصيان مدني" من خلال الامتناع من قبل كل من خرج في مسيرات الطناجر عن سداد الضرائب وهو بذاته عدد ليس بقليل إذا ما اعتبرنا ضخامة تلك المسيرات التي خرجت للشوارع إثر خطاب الرئيسة يوم الثلاثاء 25 مارس الماضي. أضف إلى ذلك أنها لم تخرج تضامنا مع المزارعين فحسب بل بسبب آفة التضخم والارقام الخيالية التي تخفيها الحكومة، والفساد والتسلط وغيرها من التهم التي تنسب لهذه الحكومة من قبل قطاعات اجتماعية مختلفة. الخطر الثاني، قذ ينجم في حالة لجوء الحكومة إلى إعلان حالة الأحكام العرفية، وهو ما حدث زمن الرئيس الأسبق "دي لاروا" قبل الاطاحة به بثلاثة أيام. كما قد تعلن حالة الطوارئئ الاقتصادية فتمنع الصادرات للخارج من أجل تمويل السوق المحلي. كلها تهديدات لا تنفع أي من الأطراف ولن تحدث ربما إلا إذا خرجت الأزمة نهائيا عن طورها الحالي وأستمرت لأكثر من شهر آخر.
الرئيسة "كريستينا كرتشنر" وجدت نفسها اليوم أمام خيارين، كلاهما مر: إذا إنصاعت للمزارعين وممثليهم ستفقد هيبتها وهيمنتها على الساحة وإذا لم تنصاع تتهدد حاكميتها ومن ثم حكومتها لما قد ينجم عن ذلك من احتجاجات وتمرد قد يصل إلى مرحلة العصيان المدني وإنسداد قنوات وسلاسل الدفع والمتاجرة. بالنسبة لها، هنا يكمن المحك والمقياس الأخير لمدى تمكنها في السلطة ومدى مساندة بقية قطاعات الشعب لها ضد أخر عدو تاريخي في قائمة هذه الحكومة. والغلبة في النهاية لمن لديه القدرة على التحمل. ولكن مظاهرات التأييد الحقيقية لا يتم تحريضها ولا تنظيمها ولا تسييرها عن بعد وبمقابل مالي. والاصلاح في الأرجنتين ربما لا يتمثل في إعلان الحرب على الشق المنتج في الأرجنتين بل في إشراك المحافظات الأخرى المحرومة من هذه العوائد، ثم في تحفيز وتنشيط الشق غير المنتج الطفيلي في ضواحي العاصمة من خلال سياسات تنفق فيها الحكومة "بشفافية" لكونها الضواحي التي تلقف كل ما ينتجه الآخر دون مقابل، وذلك من حصيلة ما يدره القطاع الزراعي الحيواني ولكن بعيدا عن "المركزية" وبعيدا عن الدفاع عن مصالح كبار الشركات المنتجة (المستفيد الأكبر من التدابير الاقتصادية) بدلا من الدفاع عن المنتجين أنفسهم، وبانتهاج سياسات زراعية على أرض الواقع. هذه هي الحقيقة وما عداها وقوع في الشعبوية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

لأي استفسار أو تعليق مراسلتنا على البريد التالي: libiahoy@gmail.com