النموذج الاقتصادي ووزارة الظل..
على خلفية النزاع بين الريف والحكومة الأرجنتينية واستقالة وزير الاقتصاد
أبريل 2008
كل من يقف إلى جانب المزارعين والريف يخسر، وكل من ينادي بـ "تبطئة" الاقتصاد كذلك!! هكذا يرى الأمر "كرتشنر". وهكذا كان مصير وزير الاقتصاد "مارتين "لوستو" (الصورة) الذي لم يقض أكثر من 4 أشهر في منصبه. المفارقة تكمن في أن هذا الوزير كان سببا في إصدار قرار رفع الضريبة على صادرات المزارعين بل وجعلها ضريبة "متحركة" (تتحدد نسبتها وفق تطورات سعرها العالمي) . إذن، كل من كان له دور في خطأ فرض ضريبة الصادرات يدفع الثمن ككبش فداء. رئيس الوزراء "البرتو فرنانديس" كذلك كان له دور في ذلك باعتباره أحد الأربعة أشخاص المسؤولين عن القرارات الرئاسية في كنف هذه الحكومة. فهل ينتظره نفس المصير؟، وهل سيحل محله الوزير "زانيني" (سكرتير الشؤون الفنية والقانونية الذي يتنافس هو ووزير التخطيط دي بيدو على هذا المنصب في إطار صراع حكومي داخلي منذ عدة سنوات) أم الرئيس السابق "كرتشنر" نفسه كما يشاع، أم السفير الأرجنتيني الحالي لدى اسبانيا "كارلوس بيتيني؟ هذا كما قلت، يشكل نوع من "المفارقة" حيث أننا لا نقصد هنا أن حكومة الثنائي "كرتشنر" تعاقب من تعاقب على تلك الضريبة تعاطفا مع الريف، بل لأن هذه الضريبة وسوء التعامل مع القضية أدى إلى انخفاض شعبية الرئيسة 20 نقطة تقريبا في أقل من شهر أو ربما بنسبة أزيد حسب جهة الاستطلاع، وإلى زعزعة ثقة المواطنين في قدرة الحكومة على معالجة الأزمة والتشكيك في مصداقيتها وإلى فشل مشروع الوفاق الاجتماعي الذي أعلنت عنه حين استلامها الحكم كأساس شرعي لحكومتها.هذا القرار إذن لا ياتي صدفة بل أن وزير الاقتصاد هو أحد من كان يعنيهم كرتشنر في أول خطاب له يوم الأمس (24 أبريل) بعد توليه قيادة الحزب البيروني في اليوم السابق لهذا بقرار من المحكمة الفدرالية، وهو ما يمنحه اليوم سلطة ومبرر أكبر للتدخل والدفاع عن حكومة زوجته "كريستينا". في هذا الخطاب هاجم وتوعد كل من يريد "تبريد الاقتصاد" (أي كبحه وانكماشه) على حد قوله بمعنى الخروج من نظام الاقتصاد المتوجه للإستهلاك والنفقات العامة المفرطة إلى نظام يكبح جمام التضخم. ففي نظر "كرتشنر" كل من يتحدث عن "تبطئة" الاقتصاد هو شخص موالي لقطاع المزارعين الذين يريدون ذلك لغرض زيادة أرباحهم من خلال تصدير أكبر قدر ممكن بدلا من استهلاكه داخليا، وذلك من باب الانتقام من الحكومة لأنها أغلقت عليهم باب التصدير. (هنا تكمن نواة القضية والخلاف الأيديولوجي بين حكومة "آل كرتشنر" والريف بزعاماته التقليدية أو "الأوليغارشية"، كما اشرنا في المقالة "ضريبة حق يراد بها باطل". إذن المسألة تبدو وكأنها قضية صراع بين رايين اقتصاديين أحدهما كينزي (كما تزعم الرئيسة) يرمي إلى تحفيز الاستهلاك والصرف والنفقات العامة المفرطة لكن بوجود تضخم، والأخر (أوروتودوكسي) يكمن في الحد من الإنفاق العام ليقل الاستهلاك وبالتالي الطلب كي تنخفض نسب التضخم، وهذا رأي الوزير المقال الذي ما انفك يحرض على ضرورة خفض الإنفاق (من 49% تقريبا إلى 27% ) إنطلاقا ربما من مبدأ استحالة التعايش أو التوفيق بين معدل نمو اقتصادي قدره 8%حسب تقديرات الحكومة، ونسبة تضخم تفوق 30% (لا تريد أن تعترف بها الحكومة). بمعنى آخر، وزير الاقتصاد المستقيل كان على وشك الاعلان عن تدابير مالية جديدة من 12 نقطة لتهدئة الاقتصاد ومكافحة التضخم وتتضمن بالتحديد تخفيض النفقات العامة من بين إجراءات أخرى. وبالطبع هذا يخالف ما يراه كرتشنر الذي يؤمن بضرورة الاستمرار في "االغليان المفرط" للاقتصاد ومضاعفة النفقات العامة لأنها في نظره هي السبيل الوحيد ليستمر الشعب في "الاستهلاك" و"الأكل" (كما قال في خطابه يوم أمس) وبالتالي يسد الطريق أمام المنتجين الزراعيين والاقتصاديين المعارضين والمخالفين لهذا الرأي. وهنا يكمن عداءه هو وزوجته لكل من تسول له نفسه التعاطف مع الخط الريفي ومطالبه .
السبب الرئيسي.. وزير الاقتصاد في الظل:
في واقع الأمر، الوزير "لوستو" لم يتمكن منذ توليه منصبه بعد استلام "كريستينا" مقاليد الحكم من تمرير أي قرار ولا حتى رأي معين مخالف لما يراه "كرتشنر". هذا الأخير هو من يتخذ القرارات الاقتصادية، أما تنفيدها فهو مهمة سكرتير الدولة للتجارة الداخلية "غيليرمو مورينو". "مورينو" هذا يحظى برعاية وحماية كرتشنر الذي عينه في هذا المنصب أصلا "كوزير موازي" لمراقبة الأسعار والضغط على رجال الأعمال والتحكم في قوائم الصادرات، بعكس وزير الاقتصاد المغلوب على أمره الذي زكاه ودفع به رئيس الوزراء "فرنانديس" وأعجبت الرئيسة بهيئته الشابة وبصيته خلال توليه منصب رئاسة مصرف محافظة بوينوس آيريس. ولعل ما أسهم في التسريع باستقالة وزير الاقتصاد "لوستو" هو امتناعه عن المصادقة على قرار يمنح "مورينو" صلاحيات جديدة، واستحالة العمل مع "وزير موازي" يهدم كل ما يبنيه من قرارات أو اتفاقات. وهذا ما حدث في إطار المفاوضات مع المزارعين، حيث أفسد على وزير الاقتصاد كل ما أحرزه من تقدم من خلال إصدرا قرار بمنع الصادرات الزراعية والحيوانية دون مراعاة لسير المفاوضات بحجة خفض الأسعار الداخلية لتلك المنتجات، وعندما احتج وزير الاقتصاد على ذلك لم يكن من "مورينو" إلا أن أصر على "قطع رقاب المزارعين" بلا شفقة. وأخيرا ولحسن حظ هذا الأخير، تم تعيين وزير اقتصاد جديد (كارلوس فرنانديس) من نفس الخط الكرتشنري، والأهم من ذلك كله أنه وزير "راضي بالموجود".
النموذج الاقتصادي للحكومة : "عن الكينزية لن نحيد"
سياسة المماطلة فيما يخص التفاوض مع القطاع الزراعي والتلكؤ في التوصل معه إلى حلول مرضية فيما يخص الضرائب "المتحركة" (مراجعة الحكومة لنسبة الزيادة حسب تطورات أسعارها في الأسواق العالمية) وفيما يخص السماح للقطاع بمباشرة عمله الانتاجي والتصديري سواء للحبوب أو للحوم، أثار غضب القطاع وزاد من حدة الأزمة وفقدان الثقة. على المستوى العام، الناس توقفت عن الاستثمار في أي شئ في انتظار نتيجة المفاوضات. توقفت القروض من الخارج والاستثمارات المحتملة. توقف الصادرات الزراعية الحيوانية (المؤقت ربما) يحرم الدولة من زبائنها في المنطقة (البرازيل تفكر في الاتجاه على مضض للسوق الأمريكي لشراء الحبوب) ولكن كذلك يحرمها من العملة الأجنبية وهو بدوره قد يهدد سياسة تثبيت سعر الصرف (سعر الدولار زاد في يومين فقط من 3,15 إلى 3,22 بيسو للدولار الواحد) بالرغم من أن أن المصرف المركزي يمتلك 50 مليار من الاحتياطي من العملة الأجنبية وبالتالي مازالت أمامه فرصة للتحكم في سعر الصرف وتفادي ارتفاعه إلى أكثر من ذلك. من حهة أخرى، هذه المماطلة تتسبب في زيادة الأسعار نتيجة تعطل الانتاج الزراعي. هناك تشاؤم بشكل عام بخصوص النمو المستديم وتردد من قبل الناس في ادخار أموالها في المصارف التي لا تعرض سعر فائدة مرضي لأن التضخم يأكل ما تعرضه، وهذا يسهم في توجه الناس نحو الاستهلاك وشراء السلع المختلفة بدلا من الاحتفاظ بأموالها في المصارف دون جدوى. هذا يعني اتساع في دائرة العرض النقدي وهو بدوره يزيد من حدة التضخم، الذي هو الآخر يقلل من القدرة الشرائية، وهكذا تستمر الدائرة الاقتصادية العقيمة في التفاقم دون وضع حد نهائي لها.آل "كرتشنر" لا يريدون التنحي عن هذا النهج الاقتصادي تماديا في تقليد ما يسمى بـ "اقتصاد كينز"، ربما بشكل مشوه. حرصهم على ذلك يعني أن الحكومة مستمرة في تطبيق النموذج الاقتصادي الحالي أي "نموذج النفقات العامة المفرطة وسعر صرف مرتفع". في نظرهم من المستحيل تغيير النهج الاقتصادي الحالي ولا التنازل عنه رغم ارتفاع نسب التضخم، حيث أن كبح سرعة الاقتصاد يعني خفض الاستهلاك المحلي وخفض النفقات العامة والحد من القروض والايداعات تحت الطلب والحد من زيادة عرض النقود عموما ليقل الطلب وبالتالي تتوقف الأسعار عن الارتفاع ويتم القضاء على التضخم. هم ضد كل ذلك لأن الهدف هو تمكين الشعب من الحصول على قروض سهلة والاستهلاك، ولأن مشكلة التضخم في نظرهم ليست ذات معنى وأنها تنتهي بمجرد مراقبة الأسعار وتثبيتها بإرغام القطاعات المصدرة للحبوب واللحوم على بيعها داخليا بأسعار متاحة دون الأخذ في الاعتبار ارتفاع أسعارها عالميا، وهذا ما لا يريده المنتجون في الأرياف. لهذا السبب اتهمهم "كرتشر" في خطابه يوم 24 أبريل الماضي بأنهم "وراء الدخان وحرق المزارع، وراء التضخم ووراء موجة غلاء الأسعار، ووراء فقر الشعب طمعا في مزيد من الأرباح بسبب الأسعار العالمية لسعر الصويا وسعر السلع الأساسية عموما، ولا يهمهم ذلك بل يهمهم التصدير للخارج بدلا من ترك حصة الشعب في الداخل" على حد قوله. هذا التحدي من قبل الرئيس السابق في نفس الوقت الذي تدور فيه المفاوضات الشائكة والعالقة مع المزارعين يبين مدى ازدواجية الحكم وتدخل الرئيس السابق "كرتشنر" في شؤون حكومة زوجته وسط إشاعات تزداد قوة في كل مرة حول وصول المفاوضات إلى طريق مسدود وإمكانية عودة الاضرابات. وما يزيد الطين بلة هو فتح هذه الحكومة لجبهة حرب جديدة ضد الاعلام الذي يقف في نظرهم في صف القطاعات "الانقلابية الرجعية" في الأرياف. بالخصوص قامت بإصدار قانون مراقبة الإعلام وهيئة مكرسة لهذا الهدف. القانون أسهم في الإسراع به ظهور صورة الرئيسة "كريستينا" في صحيفة "كلارين" مكممة الفم للتدليل ربما على انها ليست هي من يحكم بل زوجها. وبهذا يضاف "عدو" جديد إلى قائمة الحكومة التي تشتمل حتى الآن على العسكر والكنيسة والريف الأوليغلرشي كما أشرنا في المقالة السابقة، كل ذلك في إطار "نظرية المؤامرة" التي أخذت هذه الحكومة تبني على أساسها شرعيتها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
لأي استفسار أو تعليق مراسلتنا على البريد التالي: libiahoy@gmail.com