الثور الريفي وسكاكين كرتشنر النقدية..
على خلفية النزاع بين الحكومة والريف في الأرجنتين
21/05/2008
في عالم الرئيس كرتشنر كل فعل "يجب" أن يواجه بردة فعل مماثلة أو أعنف بقليل، وهكذا يحب أن يتعامل هو مع محيطه السياسي المعارض على الأقل، وكلما زادت حدة الفعل تحولت ردة الفعل لديه إلى ما يشبه الانتقام بغض النظر عن مضاعفاته . حكومة "كرتشنر" قررت اليوم الجلوس على مائدة المفاوضات من جديد واستقبال زعماء الأرياف بعد أن علقوا إضرابهم بشكل مؤقت ومشروط من اجل إعطاء فرصة أخرى للحوار و"التعقل" وللتفاوض وفي أسرع وقت حول المسائل العالقة المتسببة في هذا النزاع في الأصل، خاصة إشكالية الضريبة المتحركة (التي تصر الحكومة على عدم التطرق لها) وتعويضات المنتجين وفتح مجال التصدير للقمح واللحوم (تصدير المقاطع التي لا تستهلك منها في الداخل)، وهي إجراءات لا تطبق مثلا على غيرهم من القطاعات كما هو الحال بالنسبة للقطاع الصناعي الذي لا تفرض عليه الحكومة نفس الضريبة، أو قطاع الطاقة حيث يتم تصدير الوقود على حساب السوق المحلي المفتقر له وخاصة في الريف. رغم ذلك لم ينتظر "كرتشنر" (الرئيس السابق) لحظة واحدة للنيل ممن تسببوا في رأيه خلال اليومين السابقين في خلق أجواء من الهلع والاضطراب والبلبلة الاقتصادية بإثارة الشائعات حول تفجر ازمة اقتصادية ومصرفية شبيهة بتلك التي عانى منها الشعب الأرجنتيني سنة 2001 حيث خروج رؤوس الأموال وعجز المصارف عن مواجهة مطالب زبائنهم الذين زحفوا على المصارف في آن واحد طمعا في إنقاذ ما يمكنهم انقاذه من إجمالي ودائعهم تحت الطلب والودائع لأجل ومدخراتهم بالعملتين المحلية والأجنبية، الخ.
في واقع الأمر الحكومة الكرتشنرية بردة الفعل هذه إنما تحاول، بالإضافة إلى إخفاء عجزها عن "تركيع" الريف "الانقلابي" دون شروط، تحاول قطع الطريق أمام خصومها السياسيين كي لا يتمكنوا من استغلال هذه الأزمة في تحقيق هدفهم في الإطاحة بهذه الحكومة متذرعين بحجج اقتصادية شبيهة بالتي أطاحت بحكومة الرئيس السابق "دي لاروا" (1999-2000)، وهو ما دعى الحكومة أصلا إلى القبول بالجلوس مع الريف على مائدة الحوار، ولكن دون إظهار جانب الضعف بل بالعكس الظهور بمظهر "المنتصر" الذي تمكن من فرض رايه ومكنته قوته من السيطرة على ثور هائج وقع وتجب "معاقبته"، ولو أن "الريف" لا زال "يبتسم" ويفرض شروطه ويعطى مهل قصيرة للعودة للإضراب. وحتى لو افترضنا أنه الخاسر في هذه المفاوضات إلا أن "الابتسامة" كما يقول المثل "تفسد على المنتصر لذة النصر"، بل وتزيد من غيظه. وهنا ربما يكمن سبب رغبة "كرتشنر" في الانتقام ، ورغبة الريف في الاستمرار في تجاوز مطالب المنتجين إلى ما أبعد من ذلك: احباط مشروع النموذج الاقتصادي الحكومي الجديد والحفاظ على هيمنتهم التقليدية التاريخية على الاقتصاد الأرجنتيني.حقيقة الأمر بعيدة كل البعد عن هكذا مشهد بطولي. فبالرغم من المبالغة فيما يخص تلك الشائعات الاقتصادية إلا أن الحكومة أحست فعلا ببعض بوادرها ولكن تمكنت من السيطرة عليها بفضل الاحتياطي الكبير من العملة الاجنبية (ما يزيد عن 50 مليار دولار) ومن خلال تطبيق المصرف المركزي للسياسة المتمثلة في نظام "تعويم العملة المدار"، أي غير النظيف، حيث تدخلت الحكومة عن طريق المصرف المركزي في قوى العرض والطلب النقدي لتفادي الأزمة، وهذا ما حصل ومازال يحصل هذه الأيام إمعانا من جهة في الانتقام ممن راهنوا على انهيار الاقتصاد وممن استغلوا النزاع للإستفدة المادية من سعر الصرف، ومن جهة أخرى الأيحاء بالانتصار على الريف، فأمر محافظ المصرف المركزي بالتدخل لبيع الدولار -ولو على حساب الاحتياطي الأجنبي- (حجم الاحتياطي انخفض خلال الشهر الماضي بمقدار مليار و200 ألف ولار) إمعانا في الانتقام من مصارف اجنبية ورؤوس الأموال المضاربة الدولية التي استغلت النزاع السياسي لمصلحتها الذاتية ومصالح المعارضة المتربصة بالحكومة (في راي الحكومة) كي ينخفض فيخسر هؤلاء المضاربون المتعطشون ومن يساندونهم. تلك السياسة النقدية تمثلت في مواجهة الطلب المتزايد على الدولار والايداعات تحت الطلب من جهة وضخ المصارف التجارية بالدولار (300 مليون) وخفض نسبة الفائدة (سعر الخصم) الذي يدفعونه للمركزي كي يتمكنوا من مواجهة الطلب على الدولار، علما بأنه وفق الظروف النقدية تفتخر الحكومة بأنه "يكفيها ثلث الاحتياطي من العملة الأجنبية التي بحوزتها لامتصاص كل السيولة الموجودة في السوق الأرجنتيني". في نفس الوقت حشدت الحكومة كل ما لديها من وسائل إعلامية ومن جنود إعلاميين واقتصاديين سابقين وحاليين بمن فيهم محافظ المصرف المركزي "مارتين ردرادو" لمواجهة الحملة التخريبية وللبرهنة على قدرة اقتصاده على مواجهة الطلب على العلمة واتبات أن الوضعية التي عليها الاقتصاد حاليا تختلف تماما عن تلك التي اسفرت عن أزمة 2001 وأدت إلى انهيار الحكومة. رئيس المصرف المركزي نفسه نشر مقالة يوم الأحد الماضي يوضح فيها أوجه الاختلاف بالمقارنة بوضعية الأحوال النقدية في 2001 حيث يغطي الاحتياطي الدولي 100% من الودائع تحت الطلب والسيولة التي بحوزة الناس مقابل 45% فقط سنة 2001. من جهة أخرى يقول أن الفائض التجاري هذه السنة (12 مليار دولار، أو 12 ألف مليون) يضمن توفير عرض هيكلي من العملة الأجنبية بإمكانه تغطية كمية الطلب على الدولار مهما كانت قيمته، ناهيك عن أن دينامية الصادرات عموما والصناعية خصوصا تنمو بنسبة 18% سنويا بما لا يدع مجالا للشك في عدم وجود مشكلة تنافسية كانت سببا في تفجر أزمة 2001. كما أن الملاءة والسيولة في المصارف التجارية طيلة ثلاثة سنوات من الربحية الانتظامية الايجابية تمتد إلى ملاءة المصرف المركزي نفسه فيما يخص ممتلكاته بشكل لم يسبق له مثيل على حد قوله.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
لأي استفسار أو تعليق مراسلتنا على البريد التالي: libiahoy@gmail.com