فاقة سياسية ومتاهة اقتصادية..
على خلفية النزاع بين الحكومة والريف في الأرجنتين
8 يونيو 2008م


كل أزمة لها بوادر وأشراط إذا لم ننتبه إليها فاجأتنا بكل ثقلها. الحكومة الأرجنتينية الحالية مترفعة ولا تريد الاعتراف لا بالتضخم ولا بأنها في أزمة أصلا وربما لن تنتبه لتيارها حتى يجرفها. الأشراط والمقدمات كثيرة والأمثلة في تاريخ أزمات هذه الدولة هي الأخرى كثيرة وقريبة إلى الذاكرة سواء في أوخر الثمانيات (1985-1988) عندما أطاح التضخم برئيس الدولة، أو في بداية الألفية الثانية (2000-2001) عندما أطاحت الأزمة بحكومة أخرى برمتها، دون أن تنتبه أي منهما لبوادر وبدايات تلك الأزمات القاتلة. الحكومة اليوم تعالج الأزمة الاقتصادية من خلال حلول سياسية إعتمادا على ايديولوجية السبعينيات المقاتلة وليس بأدوات اقتصادية مناسبة، وكأنها "دونكي شوت" وهي تحارب "خيالات" الحكومات العسكرية. من هنا يأتي العجز والافلاس السياسي، باعتبار أن هذه الحكومة خرجت عن إطار اللعبة الديمقراطية والإطار المؤسساتي والدستوري في التعامل مع الخصم في هذه القضية، وتحولت القضية إلى انتقامات وملاحقات قضائية وتهديدات، بدأت بإلقاء رجال الأمن القبض على بعض عناصر زعماء الأرياف وإحالة آخرين على القضاء وانتهت اليوم بتقديم زعماء الريف لشكوى ضد الحكومة لدى ما يسمى بـ "محامي الشعب أو "أومبودس مان" للرد على الحكومة بالمثل وبنفس الأسلوب من باب برهنة كل طرف عن قدرته على الرد وقوة التحمل ولوي ذراع الآخر.
الحكومة لم تفلح في معالجة الأزمة الحالية مع زعماء الريف لأنها ترفض أصلا الجلوس معهم والإنصات لهم بحجة أنه "ليس لديها ما تضيف"، ربما لأنها تنتظر من جهة بث الفرقة في صفوفه بين كبار زعمائه من جهة وصغار المزارعين من جهة أخرى، حيث تطمع في تحييد الأخيرين وتأليبهم على زعمائهم للإنفراد بهم. في نظر الحكومة الريف أو"الأوليغارشية" هي أقلية تكمن قوتها في طبقة اقطاعية لا يزيد عدد أفرادها عن 5.000 مزارع يتحكمون في مصير الأغلبية (63 ألف مزارع) ويحتكرون 80% من انتاج فول الصويا. ربما أيضا لأنها لا تبحث سوى عن تركيع هؤلاء وتحييد قوتهم كهدف أساسي بغض النظر عن قضية الضريبة والحبوب ولحم البقر وهدر الألبان بكميات في الطرقات وغيرها من المبررات. ولربما أيضا لأنها تعلم أن هدف خصمها هو نفس هدفها، كما أشرنا سابقا، وبات يتأكد لنا يوما بعد يوم، بعد أن تم تسييس القضية الاقتصادية أكثر من اللازم.


في اليومين الماضيين قال الرئيس (السابق) "كرتشنر" في اجتماع مغلق على مستوى المحافظات وبناء على ما ورد في صحيفة "كريتيكا" - التي تمكن صحفي يعمل بها من حضوره- أمام أتباعه من الشق البيروني الموالي له أنه "لو كان الريف يمتلك السلاح لنفذ انقلابا ضدنا اليوم"، بمعنى أنه لو كان للعسكر وجود كما في السبعينيات لتمكن الريف من الانقضاض على الحكم. وأضاف: "سلاحهم اليوم هو بعض منابر الإعلام التي يجب دمقرطتها والقضاء على احتكارها لوسائله". وفيما يخص زعماء الاتحادات الريفية قال: "إنهم لا يمثلون صغار المنتجين، بل هم طبقة متوسطة وعالية تشكلت في الأرياف وذات مفاهيم اقطاعية تماما مثل الأوليغارشية التقليدية".

ربهم لم يقبل دعواهم..
في الموضوعين السابقين، "ضريبة حق يراد بها باطل" و "لوكان الريف رجلا لقتلوه"، أشرنا إلى أن الحكومة تصلي وتدعو ربها أن لا يتشكل حزب الأرياف، لأن ذلك كفيل بأن يستقطب كل القوى السياسية المعارضة في الأرجنتين في أئتلاف يصعب مواجهته في الانتخابات القادمة سواء التشريعية في 2009 أو الرئاسية في 2011. ولكن، و رغم صعوبة مفصلة هكذا تحالف ريفي وحزبي أو حركي كفيل بلم شمل المعارضة على اختلاف ألوانها، إلا أن دعواهم قد لايستجاب لها. فقد أصبح الريف يشكل قاعدة عريضة بالإمكان استخدامها في مواجهة الحزب البيروني الحالي (على الأقل في هيكلته الصغرى الجديدة في مختلف المحافظات وليس في هيكلته الفوقية المتمثلة في حزب العدالة التقليدي الذي عهدناها عنه تاريخيا، حيث أنه منقسم اليوم كما أشرنا في موضوع "بيرون ضد بيرون" ومواضيع أخرى). الصعوبة تكمن في غياب زعيم ذي قدرة على احتواء واستغلال هذه القوة بالشكل المناسب وبما يخدم الغرض. هذا الزعيم المنتظر، إن كتب لهذه الأزمة الاستمرار طبعا، فإنه بالدرجة الأولى سيكون أحد ولاة المحافظات الخارجة عن طاعة آل "كرتشنر"، وهي أهم ولايات من ناحية القدرة الانتاجية إلى جانب محافظة بوينوس آيريس. من بين هؤلاء حاكم ولاية "سانتا في" الحالي والسابق "كارلوس رويتيمان"، وقرطبة "سكياريتي"، وحااكم ولاية "انتري ريوس" السابق "خورخي بوستي" الذي رفض تزعم الحزب البيروني في ولايته بسبب هذه الأزمة، والعديد من عمداء البلديات الذين عارضوا سياسة "كرتشنر" تجاه الريف. هناك بالطبع شخصيات بارزة أخرى تحاول استثمار حالة النزاع هذه والبرهنة على تأييدها للريف المتهم من قبل الحكومة بإخفاء نوايا انقلابية كما أشرنا. من بين هؤلاء الرئيس البيروني السابق "دوهالدي" الذي كان سببا أصلا في وصول "كرتشنر" إلى سدة الحكم سنة 2003، ولكن لم يعد اليوم يطيقه لآسباب كثيرة أخرى لا مجال لذكرها هنا آخرها هذا الموقف الحكومي "المتعنت تجاه الريف" كما يقال رسميا. رئيسة حزب "اري" كذلك تحاول استغلال هذه الظروف لنفس الغرض. كذلك الأمر بالنسبة لبعض زعامات الشق غير الموالي لآل "كرتشنر" من الحزب الراديكالي وولاته الذين كثفوا جهودهم للضغط على نائب الرئيسة الحالية "خوليو كوبوس" (من الشق الراديكالي المتحالف مع كرتشنر) ولكن دون جدوى حتى الآن. من جهة أخرى أسفرت هذه الأزمة عن ولادة زعامات اجتماعية اقتصادية جديدة من أمثال "ألفريدو دي أنجيلي" (الصورة)، الذي يقود المقاومة الريفية التي خرجت عن سيطرة الزعامات الريفية التقليدية المذكورة لتقود جماهير صغار المزارعين الرافضين لسياسة الحكومة الكرتشنرية. هذه الفئة من المزارعين لا تندرج في إطار ما تسميه الحكومة بالاقطاع أو "الأوليغارشية التقليدية"، وهو ما يسلب الحرب المعلنة على الريف "الشرعية" الايديولوجية التي تريد الحكومة أن تكسوها بها لتبرير إصرارها على هذا النزاع.


الوساطة الربانية والريف..
الأسبوع الماضي، وخلال زيارة الرئيسة "كريستينا" لأيطاليا، لم تتمكن من مقابلة البابا، ولكن قابلت الرجل الثاني في الفاتيكان، الكردينال "تارسيسيو برتوني". السبب الرئيسي في التماس هذه المقابلة هو تلكؤ الفاتيكان في اعتماد السفير الأرجنتيني الجديد لدى الفاتيكان، السيد "ألبرتو إيريبارني" (وزير العدل السابق في عهد زوجها كرتشنر). المعاملة كما يقولون "بالمثل". الكنيسة الأرجنتينية بزعامة الكردنال "بيرغوليو" في خلاف مستمر وعداوة مع الحكومة الحالية لا تخفى على أحد كما أشرنا في المواضيع السابقة. أنباء هذه العلاقة السلبية تصل الفاتيكان، وهذه الدولة الدينية بدورها تستشير ممثلها في الأرجنتين. الإجابة معروفة: "لينتظر السفير لحين إشعار آخر". الكنيسة الأرجنتينية حاولت يوم أول أمس التوسط بين الحكومة والريف في النزاع القائم من خلال اجتماع كبير وبيان ختامي مقروء يحث الطرفين على السلم والحوار. لكن الحكومة في شخص رئيس الوزراء وكذلك وزير العدل رفضت ذلك. الأسوأ من ذلك أن الوزيرين سخرا من الكنيسة وسفها دورها من خلال تهجمهما على رسالة الكنيسة. رئيس الوزراء "ألبرتو فرنانديس" قال "أن الكنيسة التي يؤمن بها هي الكنيسة التي تدعو للعدالة الاجتماعية والمساواة وليس هذه الكنيسة". وزير العدل الحالي "أنيبال فرنانديس" قال أن الكنيسة "قللت أدبها على الرئيسة عندما طلبت منها في نص بيانها أن تتواضع". بينما نصح النائب البرلماني الكرتشنري "كونكل"، الصديق الحميم للعائلة الحاكمة، نصح الكنيسة "بأن تتفرغ لحل فضائحها الجنسية". زعيم الكنيسة "برغوغليو" لايزال يقف في طريق تعيين ذلك السفير الأرجنتيني الذي لم يرد الفاتيكان على طلبه لا بالسلب ولا بالإيجاب. هنا رب الكنيسة أقوى من رب الحكومة.

إشاعات ومتاهات..
الأسبوع الماضي تهافت الناس على الدولار وسادت موجة من الارتباك والخوف كل المؤسسات المدنية والخواص، وانتشرت رسائل غامضة عبر البريد الألكتروني محرضة الناس على سحب ودائعهم قبل أن تستحوذ عليها المصارف كما حدث سنة 2001 . أحست حينها هذه الحكومة بالخطر فسارعت إلى اتخاذ تدابير مالية عبر المصرف المركزي لاحتواء الموقف. كان البعض قد استغل ارتفاع سعر الدولار لشراء ما يمكنه شراءه على اعتبار أنه سيزداد في الارتفاع بسبب النزاع والأزمة فيبيعونه فيما بعد بأضعاف ما اشترونه به. تدخل الحكومة عبر البنك المركزي كان من باب البرهنة على الملاءة التي تتمتع بها وقدرتها على مواجهة الطلب وإحباط المشروع التخريبي إن لم نقل "الإنقلابي". هذا قد يفيد على المدى القصير وفي حالة وضع حد نهائي للنزاع مع الريف، ولكن في حالة استمرار النزاع لمدة شهرين أو ثلاثة أخرى فإن هذه الحلول ستفقد تأثيرها بفعل اضمحلال الاحتياطي من العملة الأجنبية وعجز الحكومة عن الاستمرار في سياسة النفقات العامة المفرطة وعن تفادي هروب رؤوس الأموال للخارج تماما كما حدث سنة 2001. ورغم تدخل المركزي إلا أن الناس استمرت في شراء الدولار لأنها مقتنعة بأن العملة المحلية ستفقد قيمتها على المدى المتوسط والبعيد ولعلمها بأن الحكومة لن تغير من موقفها تجاه الريف ولا من برنامجها ولا من نظامها الاقتصادي الحالي. هذه الحكومة لا تريد خفض النفقات العامة وكبح الاستهلاك لأن سياستها الاقتصادية أصلا تعتمد على "الإفراط في النفقات العامة"، فأخذ المصرف المركزي يخسر احتياطيه الدولي يوميا للحيلولة دون ارتفاع سعر الدولار، دونما معالجة لقضية التضخم الذي فيما يبدو لا يمثل هدف هذه الحكومة الأول لأن ما يهمها في الواقع هو الإنتقام ممن ركبوا هذه الأزمة وراهنوا على الدولار وعلى الانهيار الاقتصادي وربما السياسي كذلك. المفارقة تكمن في أن انخفاض الدولار هدد قطاع الصناعة وأسعاره التنافسية، مما ألب على الحكومة سخط قطاع أخر في وقت هي لا تبحث فيه عن كسب عدو جديد. من ناحية أخرى، لمحاربة ارتفاع الدولار زادت الحكومة من سعر الفائدة (من 11 إلى 17% تقريبيا) لترغيب الزبائن في الإحتفاظ بودائعهم بالعملة المحلية، ولو أن ذلك كان على حساب توسيع دائرة العرض المالي والقروض التي ازدادت اسعار فائدتها بنسب موازية مما سيكون له اثر على الاستهلاك والاستثمار وبالتالي على انكماش الإقتصاد بالرغم من ان هدف الحكومة هو عكس ذلك. ما يجهله البعض هو أنه من المستحيل غصب السوق، فالسوق كفيلة ذاتيا وحتميا بإصلاح ما تفسده السياسة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

لأي استفسار أو تعليق مراسلتنا على البريد التالي: libiahoy@gmail.com